أحيانا، تهجم على الإنسان أفكار كثيرة، وتغرقه خواطر غزيرة، وتحاصره أسئلة مثيرة. يحدث ذلك غالبا عند خلوه بنفسه، وفراغ محيطه ممن يلقي إليه بباله، وإن كان الهدوء ظاهر حاله إلا أنه يغالب في داخله أمواجا عاتية، ورياحا عاصفة.
ويظل على حاله حتى يرد إليه ما ينتشله من وحدته. ورغم خروجه من طوفانه الداخلي، ووقوفه على شط بحره المتلاطم، لا يسلم المرء من الجراح، إذا لم يكن بحوزته طوق نجاة، يبقيه معافى من الأفكار السامة، والخواطر الخبيثة، ويحل به شباك الأسئلة المعقدة.
لا أذكر في هذا الخضم، كم مرة دخلت في محاورة مع نفسي، عن معنى السعادة، وطبيعة شعور السعادة، هل السعادة موجودة فعلا؟ أم أن نظرتنا للأشياء هي التي تجعلنا نشعر بالسعادة أو نقيضها، هل نستطيع تصنيف الناس إلى سعيد وتعيس؟ ماهي درجات السعادة؟…
كم تبدو غريبة أسئلة الإنسان التي يطرحها في داخله، عند محاولة التعبير عنها لغيره!
يختبر الإنسان شعور السعادة البسيط منذ الولادة، وتبدأ الذاكرة باكتساب الخبرة التي تميز بها الأشياء الباعثة لهذا الشعور، ثم تتطور الآلية المحفزة لهذا الشعور مع مرور الوقت لتصبح أكثر تعقيدا، فبعض الأشياء التي كانت مبعثا للسعادة في الصغر، قد لا تكون كذلك عند الكبر.
فالطفل الذي كانت تسعده قطعة حلوى، أو لعبة سيارة، أو كرة قدم، أصبحت هذه الأشياء في نظره عادية جدا، يسعده كثيرا أن يكون لديه هاتف، أو دراجة نارية، ثم سيارة، ثم عمل، ثم منزل، ثم أسرة… هكذا يتنقل الإنسان بين الأشياء باحثا عن السعادة.
لابد أن نعترف أن الكثير من الأشياء تكون الحاجة إليها أدعى، فلا ندرك أنها كانت للسعادة جالبة إلا بعد غيابها.
قد يكون للفرد عالمه الخاص، الذي يلامس فيه شعور السعادة رغم بساطته، لكن سطوة الحياة الجماعية وما تفرضه من سقوف عالية لكل شيء، تبقينا في عملية بحث دائم عن شعور السعادة في الأشياء المادية خاصة.
إن الانسياق وراء ماديات الحياة التي يفرضها المجتمع المعاصر، استجلابا لشعور مؤقت بالسعادة، يفوت على المرء لذة الشعور بالسعادة الحقيقية المتمثلة بالرضى بما لديه، فتراه مبخسا لما يملكه، مثمنا لما لا يملكه، منصرفا عن ماهو موجود، إلى ما قد لا يكون له حظ في الوجود، وبذلك يقضي حياته لاهثا وراء السراب، لايرتوي من ظمأ، ولا يشبع من جوع.
لا أعني بذلك، أن لا يكون المرء إلى الخير ساعيا، و أن لا يكون طموحه عاليا، وأن لا تكون همته سامية، بل أعني أن تكون نفسه راضية.
ليست السعادة دائما في الأخذ والاكتساب، إن النفوس تسعد أيضا بالعطاء، تسعد عندما تعطي الفقير، وتجبر الكسير، وعندما تواسي المكلوم، وتنصر المظلوم.
لن يدرك معنى السعادة من لم يدرك حقيقة الحياة، لذلك أسعد الناس من علم أن الحياة ممر، وأتعسهم من توهم أنها المستقر…