أدب المقالة لزكي نجيب محمود
إن مُعظَم النار من مُستصغَر الشرر؛ ذلك ما قرأته في الكتب وما تعلَّمته من تجربة الحياة، وهو ما أجرى القلم بهذه الكلمات؛ فليس بعيدًا أن يُنبِّه هذا القلم المُتواضِع — الذي لا يكاد صريره يبلغ سمع صاحبه — أديبًا واحدًا من أئمة الأدب في هذا البلد، فيتَّجه وجهة جديدة في كتابة المقالة الأدبية.
فالمقالة تُوشِك أن تكون في مصر القالب الأوحد الذي يصبُّ فيه الأديب خواطره ومشاعره؛ فأديبنا قصير النفَس، تكفيه المقالة الواحدة ليُفرِغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجَّج به صدره من عاطفة وما يختلج به رأسه من فكرة؛ فإن غضب أديبنا من نقص يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصبُّ فيها ثورة غضبه؛ وإن افتتن أديبنا بجمال الطبيعة الخلاب، لجأ إلى المقالة يبثُّ فيها ما أحس من عجَب وإعجاب. أما الأديب الذي يريد أن يُعالِج بؤس البائسين فينشر في الناس القصة تلو القصة حتى يبلغ ما ينشره ألوف الصحائف كما فعل «دكنز»، أما الأديب الذي يعطف على العمال فيكتب في ذلك للمسرح الرواية في إثر الروية كما فعل «جولزورثي»، أما الأديب الذي يتلقَّى خطابًا من قارئة تستفسره الاشتراكية فيرُد على الرسالة بمجلدين، كما فعل «برناردشو»، أما الأديب الذي يرى علاج الإنسانية في حكومة دولية تُمسِك بزمام العالم كله فيكتب في ذلك كتبًا تزيد على الخمسين كما فعل «ولز»؛ مثل هذا وذلك من الأدباء لم تشهده مصر، فبؤس البائسين علاجه مقالة، والعمال تكفي لنصرتهم مقالة، وحل المشكلات الدولية حسبه مقالة.
فالمقالة إذن هي عندنا مَلاذ الأديب، الذي ليس له من دونها مَلاذ، ولا بأس بهذا لو كانت المقالة الأدبية في مصر أدبًا تعترف به قواعد الأدب الصحيح؛ ولكن الأديب المصري يكتب المقالة التي لو قيست بمعيار النقد الأدبي لطارت هباءً، ولأغلقت دولة الأدب من دونها الأبواب، وإنما قصدت بمعيار النقد ما يكاد يُجمِع عليه النُّقاد من أدباء الإنجليز.
فهم هنالك يقولون: إن المقالة يجب أن تصدر عن قلق يُحِسه الأديب مما يُحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل يجب أن يكون سخطًا مما يُعبِّر عنه الساخط بهزة في كتفيه ومطٍّ في شفتيه، مُصطبَغًا بفكاهة لطيفة، لا أن يكون سخطًا مما يدفع الساخط إلى تحطيم الأثاث وتمزيق الثياب، هذا السخط على الحياة القائمة في هدوء وفكاهة، هذا السخط الذي لم يبلغ أن يكون ثورة عنيفة، هو موضوع المقالة الأدبية بمعناها الصحيح؛ فإن تضرَّمت في نفس الأديب ثورة كاسحة جامحة، فلا يُجيز له نقَدة الأدب أن يتخذ المقالة مُتنفَّسًا لثورته، وليسلك — إن أراد — سبيله إلى المنابر يُلقِي ثورته في موعظة؛ لأنها تحتمل من الواعظ أعنف ألوان التقريع، أو ليلتمس سبيلًا إلى القصيدة — إن كان شاعرًا — لأن القصائد لا تتنافر بطبعها مع الحماس المُشتعِل.
شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقمًا، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكُّه الجميل؛ فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المُستساغة فلم تُصِبه؛ فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكُن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة؛ وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية «أَدِسُنْ» ما كتب، فلن تجد إلا مازجًا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.
نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه مُحدِّثًا لا مُعلِّمًا، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يُسامِره لا أمام مُعلِّم يُعنِّفه، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلًا مُخلِصًا يُحدِّثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفًا وتيهًا بورعه وتقواه، أو موقف المُؤدِّب يصطنع الوقار حين يصبُّ في أذن سامعه الحكمة صبًّا ثقيلًا؛ نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليُمتِّعه بحلو الحديث، لا أن يُحِس كأنما الكاتب قد دفعه دفعًا عنيفًا إلى مكتبته ليقرأ له فصلًا من كتاب!
لهذا كله يشترط الناقد الإنجليزي في المقالة الأدبية شرطًا لا أحسب شيوخ الأدب عندنا يُقِرونه عليه؛ يشترط أن تكون المقالة على غير نسق من المنطق، أن تكون أقرب إلى قطعة مُشعَّثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المُنسَّقة المُنظَّمة، ويُعرِّف «جونسون» — ومكانته من الأدب الإنجليزي في الذروة العليا — يُعرِّف المقالة فيقول: إنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتمَّ هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المُنظَّم من المقالة الأدبية في شيء.
أين هذا من المقالة الأدبية في مصر؟ لقد سمعت أديبًا كبيرًا يسأل أديبًا كبيرًا مرة فيقول: هل قرأت مقالي في هلال هذا الشهر؟ فأجابه: أن نعم، فسأله: وماذا ترى فيه؟ هل تراني أهملت نقطة من نقط الموضوع؟ فأجابه قائلًا: العفو، وهل مثلك من يُهمِل في مقالة يكتبها شاردةً أو ورادة؟! هذه هي المقالة عند قادة الأدب: أن تكون موضوعًا إنشائيًّا مدرسيًّا، كل فضله أنه جميل اللفظ واسع النظر، فالفرق بين مقالة الأديب وموضوع التلميذ فرق في الكم لا في الكيف؛ فلله درُّك يا مُعلِّم اللغة العربية في المدارس المصرية! إنك لتتعقَّب بتأثيرك شيوخ الكتاب بين كتبهم وأوراقهم، كأني بك تضغط على أذن الكاتب بين إبهامك وسبابتك حين يحمل قلمه ليكتب، مُذكِّرًا إياه: هل وفَّيت نقط الموضوع؟ أين نقط الموضوع؟!
كلا، ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها، نقط ولا تبويب ولا تنظيم؛ فإن كانت كذلك، فلا عجَب أن ينفر القارئون — يا أيها الأدباء — من قراءة ما تكتبون! لا تعجبوا يا قادة الأدب المصري ألا يقرأكم إلا قِلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تُصِرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه موقف المُعلِّم لا الزميل، موقف الكاتب لا المُحدِّث، موقف المُؤدِّب لا الصديق، ويصطنع الوقار فلا يصِل نفسه بنفسه؛ وإلا فحدِّثني بربك أي فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسي؟
أرأيت كيف يتحدث الصديق إلى صديقه عن حادثة شهدها في عربة الترام وهو في طريقه إليه؟ أرأيت كيف يُلاحِظ الصديق لصديقه إذ هما يسيران ملاحظةً من هنا وملاحظة من هناك حول ما يقع عليه البصر؟ انقل هذا بيَراعة الأديب وبراعته يكُن لك منه مقالة أدبية من الطراز الأول؛ أما أن تُعلِّم القارئ فصلًا في عوامل سقوط الدولة الأموية أو في أسباب انحلال المجتمع وما إلى ذلك من فصول؛ فذلك مُفيد على أنه درس علمي، ونافع في عرض اطلاعك الواسع، ومُثقِّف للقارئ كما يُثقِّفه فصل من كتاب، ودافع إلى الفضيلة على أنه موعظة منبرية؛ ولكن لا تطمح أن تكون أديبًا بما تكتب من أمثال هذه الفصول والأبواب، فلن تكون بأمثالها في دولة الأدب قزمًا ولا عملاقًا، أنت بهذه الفصول عالم ولست بأديب، أنت بها قارئ ولست بكاتب، وفضلك أن نقلت إلى القُراء ما قرأت، وإنه لفضل عظيم؛ ولكنه شيء والأدب الخالص شيء آخر.
فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعجُّ به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يُسلِم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المُتقاطِرة صورةٌ، عمد الكاتب إلى إثباتها في رَزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح؛ لأن واجب الأديب الحق أن يخدع القارئ كي يُمعِن في القراءة كأنما هو يُسرِّي عن نفسه المكروبة عناء اليوم أو يُزجِّي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلَّل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفية وسخرية هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية؛ فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورة من الصور، بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب في مقالته، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات! ولكنه لن يلبث حتى يتبيَّن أن هذا الذي عجِب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيُضجِره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمَر منها إلى التعليم والتلقين؛ وجب أن يكون أسلوبها عذبًا سلسًا دفاقًا. أما إن أخذت تَشذِب أطراف اللفظ هنا وتُزخرِف تركيب العبارة هناك؛ كان ذلك متنافرًا مع طبيعة السمَر المُحبَّب إلى النفوس؛ هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوع مُجرَّد، كأن تبحث مثلًا فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس والتربية؛ لأن ذلك يُبعِدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، إذ لا بد — كما ذكرنا — أن تُعبِّر قبل كل شيء عن تجربة مُعيَّنة مسَّت نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قُرائه؛ ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدًّا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة؛ تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية.
ولما كانت المقالة إنما تتكئ على ظاهرة مطروقة معهودة في الحياة اليومية لتنفذ خلالها إلى نقد الحياة القائمة نقدًا خفيًّا يستره غطاء خفيف من السخرية، ولما كانت كذلك تسلك في التعبير أسلوبًا سلسًا مُشرِقًا؛ فقد يُظَن أحيانًا أنها ضرب هيِّن من ضروب الأدب لا يدنو من القصيدة والقصة والرواية. والواقع على عكس ذلك؛ لأن أرفع الفن هو ما خفي فنه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة القصة والقصيدة! وما أقل من يُجيد كتابة المقالة؛ وشأن الذي يستخفُّ بما تطلبه المقالة من فن كشأن الذي يظن أن الشعر المُرسَل أيسر من القصيد المُقفَّى، ولعل عسر المقالة ناشئ من أنها ليس لها حدود مرسومة يحفظها المُبتدئ فينسج على منوالها كما يفعل في القصة أو القصيدة.
إن الذي أريد أن أُؤكِّده مرة أخرى هو أن المقالة الأدبية لا بد أن تكون نقدًا ساخرًا لصورة من صور الحياة أو الأدب، وهدمًا لما يتشبَّث به الناس على أنه مثلٌ أعلى، وما هو إلا صنمٌ تخلَّف في تراث الأقدمين. أما إن كان الفصل المكتوب بحثًا رصينًا مُتسِقًا فسمِّه ما شئت؛ فقد يكون علمًا، وقد يكون فصلًا في النقد الأدبي، وقد يكون تاريخًا أو وصفًا جغرافيًّا كتبه قلم قدير؛ ولكنه ليس مقالة أدبية، كما أنه ليس بقصيدة ولا قصة.
البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي
قال لي أحد الرؤساء ذات يوم: «إني لتأتيني أحيانًا رِقَاعُ الاستعطاف فأكاد أهملها لما تشتمل عليه من الأساليب المنفِّرة، لولا أنَّ الله تعالى يُلْهمني نياتِ كاتبيها وأين يذهبون، ولولا ذلك لكنت من الظالمين.»
ذلك ما يراه القارئ في كثيرٍ من المخطوطات التي يخطُّها اليوم كاتبوها في الصحف ورِقاع الشكوى والكتب الخاصة والمؤلفات العامة.
هزلٌ في موضع الجِدِّ، وجِدٌّ في موضع الهزل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجازٌ في مكان الإسهاب، وجهلٌ بِفَرْقِ ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف، وقصورٌ عن إدراك منازل الخطاب ومواقفه بين السُّوقَةِ والأمراء، والعلماء والجهلاء، حتى إنَّ الكاتب لَيُقِيمُ في الشوكة يُشاكها مناحةً لا يقيمها في الفاجعة يفجع بها، ويكتب في الحوادث الصغار، ما يعجز عن كتابة مثله في الحوادث الكبار، ويخاطب صديقه بما يخاطب به عدوه، ويناجي أجيرَه بمثل ما يناجي به أميره.
ذهب الناس في معنى البيان مذاهب متفرِّقة، واختلفوا في شأنه اختلافًا كثيرًا، ولا أدري علامَ يختلفون، وأين يذهبون، وهذا لفظه دالٌّ على معناه دلالةً واضحةُ لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعب مسالكها!
ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس، وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويرًا صحيحًا، لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، فإن عَلِقَتْ به آفة من تَيْنِكِ الآفتين فهو العِيُّ والحصر.
جَهِلَ البيانَ قومٌ فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة ونادر الأساليب، فأغَصُّوا بها صدور كتاباتهم وَحَشَوْهَا في حلوقها حشوًا يقبض أوداجها ويحبس أنفاسها، فإذا قدر لك أن تقرأها وكنت ممن وهبهم الله صدرًا رحبًا، وفؤادًا جَلْدًا، وجَنانًا يحتمل ما حُمِلَ عليه من آفاتِ الدهر ورزاياه، قرأت متنًا مشوَّشًا من متون اللغة، أو كتابًا مضطربًا من كتب المترادفات.
وجهله آخرون فظنوا أنه الهَذَرُ في القول والتَّبَسُّط في الحديث، واقعًا ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يَجْتَرُّون بالكلمة اجترارَ الناقة بِجِرَّتِهَا، وَيَتَمَطَّقُون بها تَمَطُّقَ الشفاه بريقتها، حتى تَسِفَّ وتتبذل، وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تطرف عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
يُخَيَّلُ إليَّ أن الكُتَّابَ في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر ممَّا يكتبون للناس، وأنَّ كتابتهم أشبه شيءٍ بالأحاديث النفسية التي تتلجلجُ في نفس الإنسان حينما يخلو بنفسه، ويأنس بوحدته؛ فإني لا أكاد أرى بينهم من يضع فمه على أذن السامع وضعًا محكمًا، وينفث في رُوعِه ما يريد أن ينفث من خواطر قلبه وهواجس نفسه.
البيان صلةٌ بين متكلمٍ يُفْهِمُ وسامعٍ يَفْهَمُ، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من الرفعة والسقوط. فإن أردت أن تكون كاتبًا فاجعلْ هذه القاعدة في البيان قاعدَتك، واحرص الحرص كله على ألا يخدعك عنها خادعٌ فتسقط مع الساقطين.
ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلا من ناحية الجهل بأساليب اللغة العربية، ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتبًا عربيًّا، قبل أن يَطَّلِعَ على أساليب العرب في أوصافهم ونعوتهم، ومدحهم وَهَجْوِهِمْ، ومحاوراتهم ومساجلاتهم، وقبل أن يعرف كيف كانوا يعاتبون ويُؤنِّبون، ويعظون وينصحون، ويتغزَّلون وينسِبون، ويستعطفون ويسترحمون؟! وبأيِّ لغةٍ يحاول أن يكتب ما يريد إن لم يستمدَّ تلك الروح العربية استمدادًا يملأ ما بين جوانحه، حتى يتدفَّق مع المداد من أنبوب يراعه على صفحات قرطاسه.
إني لأقرأ ما كتبه الجاحظ، وابن المقفع، والصاحب، والصابي، والهَمَذاني، والخُوارزمي، وأمثالهم من كُتَّاب العربية الأولى، ثم أقرأ ما خَطَّه هؤلاء الكاتبون في هذه الصحف والأسفار، فأشعر بما يشعر به المنتقل دفعةً واحدة من غرفةٍ محكمةٍ نوافذها، مسبلةٍ ستورها، إلى جو يسيل قرًّا وصرًّا، ويترقرق ثلجًا وبردًا.
ذلك لأني أقرأ لغةً لا هي بالعربية فأغتبط بها، ولا هي بالعامية فأتفكَّه بهذيانها ومجونها.
رأيت أكثر الكاتبين في هذا العصر بين رجلين: رجلٍ يستمد روح كتابته من مطالعة الصحف، وما يشاكلها في أساليبها من المؤلفات الحديثة والروايات المترجمة، وربما كان كُتَّابُ تلك المخطوطات أحوج من قارئيها إلى الاستمداد، فإذا عَلِقَتْ بنفسه تلك الملكة الصحفية ألقى بها في رُوع قارئ كتابته أَدْوَنَ مِمَّا أخذها، فيدلي به آخذها كذلك إلى غيره أسمج صورةً وأكثر تشويهًا، وهكذا حتى لا يبقى فيها من روح العربية إلا كما يبقى من الأطلال البالية بعد كرِّ الغداة ومرِّ العَشِيِّ، وطالبٌ قصارَى ما يأخذه عن أستاذه نحو اللغة وصرفها وبديعها وبيانها ورسمها وإملاؤها ومفرداتها ومتونها ومؤتلفاتها ومختلفاتها وغير ذلك من آلاتها وأدواتها، أما روحها وجوهرها فأكثر أساتذة البيان في المدارس علماءُ غيرُ أدباء، وحاجة طالب اللغة إلى أستاذ يُفيض عليه روح اللغة ويوحي له بسرها ويفضي إليه بِلُبِّهَا وجوهرها أكثرُ من حاجته إلى أستاذٍ يعلمه وسائلَها وآلاتِها. وعندي أنْ لا فرق بين أستاذِ الأخلاق وأستاذ البيان، فكما أن طالب الأخلاق لا يستفيدها إلا من أستاذٍ كَمُلَتْ أخلاقه، وَحَسُنَتْ آدابه، كذلك طالب البيان لا يستفيده إلا من أستاذٍ مُبين.
ولا يُقْذَفَنَّ في رُوع القارئ أني أحاول استلاب فضل الفاضلين، أو أني أنكر على فصحاء هذه اللغة ما وهبهم الله من نعمة البيان، فما هذا أردت، ولا إليه ذهبت، وإنما أقول: إنَّ عَشَرَةً من الكتَّاب المجيدين، وخمسةً من الشعراء البارعين، قليلٌ في بلدٍ يقولون عنه: إنه بلد اللغة العربية اليوم ومرعاها الخصيب.
وبعد، فإني لا أرى لك يا طالب البيان العربي سبيلًا إليه إلا مزاولة المنشآت العربية منثورها ومنظومها، والوقوف بها وقوف المتثبِّت المتفهِّم لا وقوفَ المتنزِّه المتفرِّج، فإن رأيت أنك قد شَغِفْتَ بها، وكَلِفْتَ بمعاودتها والاختلاف إليها، وأنْ قد لَذَّ لك منها ما يَلَذُّ للعاشق من زَوْرَةِ الطيف في غِرَّة الظلام، فاعلم أنَّك قد أخذت من البيان بنصيبٍ، فَامْضِ لشأنك ولا تَلْوِ على شيءٍ مما وراءك حتى تبلغ من طلبتك ما تريد.
ولا تحدثنك نفسك أني أحملك على مطالعة المنشآت العربية لأسلوب تَسْتَرِقُهُ، أو تركيبٍ تختلسه، فإني لا أحب أن تكون سارقًا ولا مختلسًا، على أنك إن ذهبت إلى ما ظننت أني أذهب إليه في نصيحتك لم يكن دَرَكُكَ دَرَكًا، ولا بيانك بيانًا، وكان كل ما أفدته من ذلك أن تُخرِج للناس من البيان صورةً مشوهة لا تَناسبَ بين أجزائها، وبردةً مُرَقَّعَةً لا تَشابُهَ بين ألوانها، وإنما أريد أن تحصِّل لنفسك ملكةً في البيان راسخةً، تصدر عنها آثارها بصورة واحدة، حتَّى لا يكون شأنُك شأنَ أولئك الذين قد عَلِقَتْ ذاكرتهم بطائفةٍ من منثور العرب ومنظومها فقنعوا بها وظنوا أنهم قد بلغوا من اللغة ما أرادوا، فإذا جَدَّ الجِدُّ وأرادوا أنفسهم على الإفصاح عن شيء من خلَجات نفوسهم رجعوا إلى تلك المحفوظات ونبشوا دفائنها، فإن وجدوا بينها ما يَدُلُّ على المعنى الذي يريدونه انتزعوه من مكانه انتزاعًا، وحشروه في كتابتهم حشرًا، وإلا فإما أن يتبذلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة، أو يهجروا تلك المعاني إلى أخرى غيرها لا علاقة بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها، فهم لا بدَّ لهم من إحدى السوأتين: إما فساد المعاني واضطرابها، أو هُجْنَة التراكيب وبشاعتها.
فاحذر أن تكون واحدًا منهم، أو أن تصدِّق ما يقولونه في تَلَمُّسِ العذر لأنفسهم، من أنَّ اللغة العربية أضيقُ من أن تتسع لجميع المعاني المستحدثة، وأنهم ما لجئوا إلى التبذُّل في التراكيب إلا لاستحالة الترفُّع فيها، فاللغة العربية أرحب صدرًا من أن تضيق بهذه المعاني العامة المطروقة بعدما وَسِعَتْ من دقائق العلوم ما لا قِبَلَ لغيرها باحتماله، وقدرت من هواجس الصدور وأحاديث النفوس وسرائر القلوب على الذي عَيَّت به اللغات القادرات.
وليس الشأن في عجز اللغة وضيقها، وإنما الشأن في عجز المشتغلين بها عن الاضطراب في أرجائها، والتغلغل في أثنائها، واقتناعهم من بحرها بهذه البلَّةِ التي لا تُثْلِجُ صدرًا، ولا تَشفي أُوَامًا.
وكلُّ ما يُعَدُّ عليها من الذنوب أنها لا تشتمل على أعلامٍ لهذه الهِنَاتِ المستحدثة، وهو في مذهبي أقلُّ الذنوب جرمًا، وأضعفها شأنًا، ما دمنا نعرف وجه الحيلة في علاجه بالاشتقاق إن وجدنا السبيل إليه، أو التعريب والوضع إن عجزنا عن الاشتقاق، فالأمر أهون من أن نحارَ فيه، وأصغر من أن نقضي أعمارنا في الوقوف ببابه، والأخذ والرد في شأنه، والمساجلة والمناظرة في اختيار أقرب الطرق إليه وأجداها عليه.
واعلم أنه لا بد لك من حسن الاختيار فيما تريد أن تزاوله من المنشآت العربية، فليس كل متقدم ينفعك، ولا كل متأخر يضرك، ولا أحسبك إلا واقفًا بين يدي هذا الأمر موقف الحيرة والاضطراب؛ لأن حسن الاختيار طِلبةٌ تتعثر بين يديها الآمال، وتُقطع دونها أعناقُ الرجال. فالجأ في ذلك إلى فطاحل الأدباء الذين تعرف ويعرف الناس منهم ذَوقًا سليمًا، وقريحة صافية، وملكةً في الأدب، كأنها مصفاة الذهب، فإن فعلت وكنت ممن وهبهم الله ذكاءً وفطنةً وقريحةً خِصبةً لينةً صالحة لنماء ما يُلقى فيها من البذور الطيبة، عدت وبين جنبيك ملكةٌ في البيان زاهرةٌ، يتناثر منها منثور الأدب ومنظومه تناثر الورود والأنوار من حديقة الأزهار.
مقدمة كتاب وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي
لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها، يُقيمها الكاتبُ على حدودٍ ويُديرها على طريقةٍ، مُصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، مثيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزنٍ، تاركًا بوزنٍ؛ لتأخذ النفسُ كما يشاء وتترك.
ونقلُ حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب، وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعِه كلَّ شيء في خاصِّ معناه، وكشفِهِ حقائق الدنيا كشفةً تحت ظاهرها الملتبِس، وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة؛ تستدرك النقصَ فتتمُّهُ، وتتناول السرَّ فتعلنُهُ، وتلمِسُ المقيَّدَ فتطلقه، وتأخذ المطلَق فتحُدُّه، وتكشف الجمالَ فتظهره، وترفع الحياةَ درجةً في المعنى، وتجعل الكلامَ كأنه وَجد لنفسه عقلًا يعيش به.
فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصوِّرة لهذا الوجود، تُصوِّر به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير؛ تفسير الحقيقة، والخطأ الظاهر يريده على التبيين؛ تبيين الصواب، والفوضى المائجة تسأله الإقرار؛ إقرار التناسب، وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلةً بالحياة، والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يُخْلَقُ المُلْهَمُ أبدًا إلا وفيه أعصابُهُ الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضعُ مهيَّأَة للاحتراق تنفذُ إليها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني.
وإذا اختير الكاتبُ لرسالةٍ ما، شعرَ بقوة تفرض نفسها عليه؛ منها سِناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجودٌ وله بها وجودٌ آخر؛ ومن ثَمَّ يصبح عالَمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه؛ ويُلقَى فيه مثل السرِّ الذي يُلقى في الشجرة؛ لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرَى سهلًا كلَّ السهلِ حين يتم، ولكنه صعب أيُّ صعب حين يبدأ.
هذه القوة التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تامًّا، وتحوِّل الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم عليها، وتُدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي هي التي تميز طريقته وأسلوبه؛ وكما خُلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه.١
ولا بد من البيان في الطبائع الملهَمة؛ ليتسع به التصرف؛ إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها، فلو حُدَّتِ الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبَّسَ الملائكة بهذا اللحم والدم أبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة للحقيقة الجميلة هي كل ما يمكن أو يتسنَّى من طريقة تعريفها للإنسانية.
وأي بيانٍ في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب، إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنَضِّرها حُسْنًا كما ينضِّره.
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى — كالإيمان، والجمال، والحب، والخير، والحق — ستبقى محتاجةً في كل عصرٍ إلى كتابةٍ جديدة من أذهانٍ جديدة.
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظُهم ومعانيهم فنًّا عقليًّا غايتُهُ صحة الأداء وسلامة النَّسَقِ، فيكون البيان في كلامهم على ندرةٍ كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا، ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائدًا جمالَ الصورة. أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويَدِفُّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري. ولو كتب الفريقان في معنًى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين وكأنه يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ. وترى الإلهام في الأسلوب الآخر يطالعك أنه هنا في جلال وجمال، وفي صور وألوان.
ودَوْرَةُ العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورةُ خَلْق وتركيب، تخرج بها الألفاظُ أكبرَ مما هي؛ كأنها شَبَّتْ في نفسه شبابًا؛ وأقوى مما هي؛ كأنما كسبت من روحه قوة؛ وأدلَّ مما هي، كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلتْ عليها طابعُ واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء عَلَوْا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي.
وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خَلْق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تام تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمعُ إلى تمام الخَلْقِ جمالَ الخَلْقِ، ويزيد على منفعة الحياة لذةَ الحياة؛ وهو لذلك، وبذلك، يُرَى ويؤثِّر ويُعشَق.
وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك؛ وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك.
إن لم يكن البحرُ فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتبُ البيانيُّ فلا تنتظرِ الأدبَ.